على الرغم من تسارع الأحداث في منطقة الشرق الأوسط، على نحو غير مسبوق تحت عنوان محاربة الإرهاب، باتت الصورة التي ترسم في دوائر صنع القرار لهذه المنطقة الإستراتيجية واضحة. وهي تقوم بشكل أساسي على إعادة توزيع مراكز النفوذ، بطريقة تنهي مفاعيل إتفاقية سايكس-بيكو التي قسمت أراضي السلطنة العثمانية السابقة، إلا أنها لن تكون قادرة على إخراجها من دائرة الصراعات الدموية في وقت قريب، بل على العكس من ذلك تمهد الطريق لأخرى لا يمكن أن تنتهي في يوم من الأيام.
من هذا المنطلق، ينبغي التوقف عند ما صدر مؤخّرًا من واشنطن والرياض، بعد أيام قليلة على إعلان رئيس الوزراء التركي أحمد داوود أوغلو عن تحالف لمحاربة الإرهاب بين بلاده والسعودية، ودعوة وزير الدفاع الأميركي آشتون كارتر الدول العربية "السنية" إلى بذل المزيد من الجهود، في محاربة تنظيم "داعش" الإرهابي، حيث أعلن الرئيس الأميركي باراك أوباما أن بلاده ستحارب الإرهاب أكثر من أي وقت مضى، بالتزامن مع إعلان السعودية عن تحالف إسلامي لمحاربته مقره الرياض، تحت عباءة منظمة "التعاون الإسلامي".
بالنسبة إلى مصادر سياسية مراقبة، ما تقدم لا ينفصل عن إرسال أوباما لكارتر إلى الشرق الأوسط، للعمل على التنسيق مع حلفاء واشنطن في محاربة "داعش"، ولا عن كلام وزير الخارجية الإماراتي أنور قرقاش الّذي أعرب عن استعداد بلاده للمشاركة في قوات برية لمحاربة التنظيم الإرهابي الأخطر على مستوى العالم، بعد تنفيذه العديد من الهجمات التي هزت الرأي العام العالمي، من باريس إلى سيناء إلى بيروت وصولاً إلى كاليفورنيا، ولا عن إرسال أنقرة قواتها العسكرية بموافقة الولايات المتحدة، إلى مخيمات تقع بالقرب من مدينة الموصل العراقية، في إشارة إلى أن الدور المطلوب من المنظمات الإرهابية إنتهى، وبالتالي سيتمّ الإنتقال إلى المرحلة الثانية من المشروع السياسي.
وتشير المصادر نفسها، عبر "النشرة"، إلى أنّ التقدم الحاصل على صعيد أكثر من ملف يبدو لافتاً، فهي تضع في الإطار السابق إنعقاد مؤتمر قوى المعارضة السورية في الرياض، لجمعها في إطار موحد، هدفه المعلن تشكيل وفد يفاوض الحكومة السورية، لكنه يهدف عملياً أن يشكل إطاراً لجسم سياسي وعسكري، يتولى ملء الفراغ الذي سيخلفه القضاء على "داعش" في المرحلة المقبلة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى مؤتمر روما المخصص لبحث الأزمة الليبية، وترى المصادر أن الإعلان عن وقف لإطلاق النار في اليمن، يمهد الطريق إلى بدء مفاوضات سياسية في سويسرا، يأتي ضمن السياق نفسه، الذي يحمل عنوان مكافحة الإرهاب على قاعدة التقسيم الأمني والعسكري.
من وجهة نظر هذه المصادر، لم يكن "داعش"، ولا "الخلافة" التي أعلنها بزعامة أبو بكر البغدادي مشروعاً سياسياً يملك مقومات البقاء على قيد الحياة، لكن كل الخطوات التي قام بها في السنوات الأخيرة تأتي في مسار موحد، يقوم بشكل رئيسي على الإستفادة من الفوضى المرتكزة على ضرب المؤسسات العسكرية الوطنية في الدول التي يتواجد فيها، من أجل تكريس واقع جديد لا يمكن تجاوزه عند إطلاق الحرب على الإرهاب، التي جاءت بشعارات دعم السكان المحليين في المناطق المحتلة من قبله، سواء كان ذلك عبر تقديم الدعم إلى الأكراد، في سوريا والعراق، أو عبر تسليح العشائر العربية، لتكون البديل المناسب، بعد ترسيخ عوامل الإنقسام المذهبي والعرقي.
وتوضح المصادر السياسية المراقبة أن المعضلة الكبيرة، التي كانت تعيق الإنطلاق إلى المرحلة الحالية من المشروع، تمثلت في غياب قوات برّية سورية قادرة على مساعدة طائرات التحالف الدولي، لا سيما أن الدول الغربية غير راغبة في إرسال جنودها بأعداد ضخمة، إلا أن حلها كان عبر تأمينها من بعض الدول العربية والإسلامية، كما بات واضحاً في التحالف الجديد الذي تم الإعلان عنه، ليل أمس، من العاصمة السعودية، وتضيف: "شعوب المنطقة كانت على مدى السنوات السابقة تدفع ثمن المشهد الذي يراد رسمه في الأيام القليلة المقبلة".
في ظل هذه المعطيات التي تكونت سريعاً، خصوصاً بعد الدخول العسكري الروسي المباشر إلى قلب المنطقة، ترى هذه المصادر أنه يمكن فهم جملة من الأسئلة التي بقيت دون أجوبة طوال الفترة السابقة، أبرزها حول أسباب التغاضي عن نمو الجماعات الإرهابية في سوريا والعراق، لا بل تقديم كل أنواع التسهيلات والدعم لها، عسكرياً ومالياً وبشرياً، وعن السماح لها بالتقدم والتوسع من دولة إلى أخرى على الرغم من إعلان الحرب عليها من أقوى دول العالم.
في المحصلة، دخلت منطقة الشرق الأوسط المرحلة الثانية من مشروع تقسيمها، الذي بدأ أولاً عبر المنظمات الإرهابية، وسيستكمل عبر محاربته، لتتكون في نهاية المشهد مشاريع دول مذهبية وعرقية لديها كل أسباب النزاع فيما بينها متى دعت الحاجة إلى إشعالها.